السؤال :
أرجو منكم إفادتي بما يأتي :
أمرنا بأن نصنع الطعام لمن مات له ميت ونلح عليه بالأكل لكي لا يضعف لحزنه الشديد على المصيبة التي أصابته كما جاء ذلكم في نعي جعفر بن أبي طالب ، فسؤالي إذا عكسنا الأمر فيصنع أهل الميت طعاما ثم يدعو جماعة ليقرؤا شيئا من القرآن والأذكار ويهدوا ثواب ذلكم للميت ثم يأكلوا منه في بيته ، فهل هذا يجوز ومطلوب شرعا كما ورد في الحديث المبين أدناه ؟
( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر : أوسع من قبل رجليه .. أوسع من قبل رأسه . فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجئ بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا ، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه ، ثم قال : أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها فأرسلت المرأة : يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطعميه الأسارى ) .
إجابة السؤال :
الأصل أن يُصنع الطعام لأهل الميت ؛ لأن لديهم ما يشغلهم فعن عبد الله بن جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم أمر شغلهم ) [ سنن أبي داود ج3/ص195 ] .
قال الشوكاني في نيل الأوطار:
"فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْقِيَام بِمُؤْنَةِ أَهْل الْبَيْت مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ الطَّعَام لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْ أَنْفُسهمْ بِمَا دَهَمَهُمْ مِنْ الْمُصِيبَة " .
وقد ورد ما يدل على المنع من عكس ذلك، وهو أن يصنع أهل الميت الطعام للناس، ففي سنن ابن ماجه بسند صحيح:"عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ:كُنَّا نَرَى الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ مِنْ النِّيَاحَةِ"، وقال السندي في حاشيته:" هَذَا بِمَنْزِلَةِ رِوَايَة إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَوْ تَقْرِير النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وأشار إلى المخالفة في الفعل بقوله:" فَهَذَا عَكْس الْوَارِد إِذْ الْوَارِد أَنْ يَصْنَع النَّاس الطَّعَام لِأَهْلِ الْمَيِّت فَاجْتِمَاع النَّاس فِي بَيْتهمْ حَتَّى يَتَكَلَّفُوا لِأَجْلِهِمْ الطَّعَام قَلْب لِذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ كَثِير مِنْ الْفُقَهَاء أَنَّ الضِّيَافَة لِأَهْلِ الْمَيِّت قَلْب لِلْمَعْقُولِ لِأَنَّ الضِّيَافَة حَقًّا أَنْ تَكُون لِلسُّرُورِ لَا لِلْحُزْنِ"
وما ذكر السائل من الحديث الذي رواه أبو داوود: في السنن [ ج3/ص244 ] عن رجل من الأنصار قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه .. أوسع من قبل رأسه . فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه ثم قال : أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها ، فأرسلت المرأة قالت يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلى بها بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطعميه الأسارى .
فهذا لا يدل على وجوب صنع الطعام من أهل الميت لمن يحضر الجنازة.
والسنة ما ورد في حديث آل جعفر والله أعلم .
قال شارح الطحاوية : " وأما استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت !! فهذا لم يفعله أحد من السلف ، ولا أمر به أحد من أئمة الدين ، ولا رخص فيه . والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف .... والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله ، وهذا لم يقع عبادة خالصة ، فلا يكون [له من] ثوابه ما يهدى إلى الموتى ".
وأما إهداء الثواب للميت مطلقاً ففيه خلاف بين أهل العلم :
فمنهم من قال لا يصل الثواب للميت في هذا لقول الله تعالى: { وأن ليس للإنسان إلى ما سعى } ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات أن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ... ) . وهو قول المالكية والشافعية حيث قالوا لا يصل للميت إلا الصدقة والدعاء.
ومنهم من قال بل يصل إليه ثوابه وهو قول الحنفية وبعض الحنابلة لأنه يكون من قبيل الدعاء ولورود النص في الحج عن الغير والاعتمار عنه.
والأرجح في ذلك التقيد بما ورد فيه النص لأن هذه الأمور تدخل في العبادات والعبادات مبناها على التوقيف، ولا مجال فيه للقياس .
وقد انتصر شارح الطحاوية للجواز وأيده بقوله لمن رأى عدم الجواز:" إن كان مورد هذا السؤال معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء ، قيل له : ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن ؟ وليس كون السلف لم يفعلوه حجة في عدم الوصول ، ومن أين لنا هذا النفي العام ؟
فإن قيل : فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والحج والصدقة دون القراءة ؟ قيل : هو صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك ، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم ، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له فيه ، وهذا سأله عن الصوم عنه ، فأذن له فيه ، ولم يمنعهم مما سوى ذلك"
ومما لا خلاف فيه أن الدعاء للميت مندوب وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان هناك قراءة للقرآن ودعاء للختم فهو من المواطن التي ترجى فيها إجابة الدعاء فيدعى للميت، عند ذلك أي عند ختم القرآن.
وهنا يجب التنبيه إلى أمر: وهو إذا كان صنع الطعام من قبل أهل الميت وكذلك استئجار القراء وغيرهم من مال الميت فهذا لا يجوز إلا بإذن جميع الورثة لأنهم هم المالكون الحقيقيون للمال بعد موت صاحبه. فلا يجوز التصرف إلا بإذنهم.
وإن لم يكن من مالهم فيعود الأمر إلى أن القائم بصنع الطعام ليس من أهل الميت (أي ورثته) وبذلك تتحق السنة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم .
والله تعالى اعلم.